الحياء المحمدي
لما كان الحياء خلق يبعث على إتِّباع الحسن ويحث على فعل الفضيلة ونبذ كل قبيح وسيء أمر به رسول الله وحثَّ عليه لأنه نابع من الإيمان وإحساس المؤمن. لذا كان رسول الله من أشد الناس حياءً ومن أكثر الناس عن الحُرُمات إغضاء فلم يكن ليواجه أحداً بما يكره حياءً منه وكرم نفس، وقد قال أبو سعيد الخدري#: كان رسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه لتغير وجهه وظهور علامات الرضا كما تظهر عليه علامات الغضب وإذا بلغه من أحد الصحابة ما يكرهه وأراد أن ينهاه عن ذلك لا يذكره باسمه وإنما يقوم بين أصحابه ويقول: " ما بال أقوام يصنعون كذا وكذا " ثم يلقي عليه السلام إرشاداته من نهي وزجر وترغيب وترهيب فهو لا يذكر أحداً باسمه وإنما يذكر لفظاً عاماً للإبهام والإخفاء لئلا يؤدي التصريح إلى التجريح، فيا حبيبي صلى الله عليك وسلم أين نحن منك.
ويروي لنا أنس أن رجلاً دخل على رسول الله يوماً وفي وجهه أثر صفرة من طيب الزعفران ( وهو طيب تتجمل به النساء وتتزين ) ولا ينبغي التزين به للرجال، فأنكر عليه رسول الله ذلك في نفسه، ولما خرج من مجلسه قال رسول الله: "أو قلتم له يغسل وجهه لكان حسناً".(1) فلم يواجهه رسول الله لخطأه.
وقد قالت السيدة عائشة: لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفاحشاً ولا صخاباً في الأسواق ولا يجازي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح (2) .فالفحش في القول ينافي كثرة حيائه وشدة صفائه صلى الله عليه وسلم والغضب ينافي الحياء والوقار.
كان صلى الله عليه وسلم، لا يقابل السيئة بالسيئة إذا كانت تتناول حقاً من حقوقه، فكم تنازل في سبيل محافظته على حياءه من ذلك ما يرويه أنس قال: ( بني رسول الله بزينب بنت جحش فأرسلت على الطعام داعياً فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون ويجيء غيرهم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه فقلت يا نبي الله ما أجد أحداً أدعوه فقال صلى الله عليه وسلم ارفعوا طعامكم وبقي ثلاثة يتحدثون في البيت فخرج رسول الله فانطلق إلى حجرة عائشة، لعل هؤلاء الثلاثة يخرجون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته قالت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، كيف وجدت أهلك بارك الله لك. ثم طاف رسول الله على حجرات نساءه كلهن على أمل أن يخرج هؤلاء الثلاثة ويقول لهن رسول الله مثلما قال لعائشة ويقلن له مثلما قالت عائشة.ثم رجع رسول الله إلى بيت زينب فإذا الرهط الثلاثة في البيت يتحدثون وكان رسول الله يتأذى ببقائهم وكأنهم اتخذوا ببيت رسول الله مقراً لراحتهم وأحاديثهم ورفاهيتهم والحياء يمنع رسول الله من أن يأمرهم بالخروج فأنزل الله قوله من سورة الأحزاب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً) .الأحزاب ( 53)
وقد ركز رسول الله على الحياء كثيراً ورغب فيه وحث عليه حتى لا يغلب على المؤمن انفراط الشهوة وانحطاط الخلق ليتحقق الإيمان الخالص، فالحياء شعبة من الإيمان إذا هو عنوان الفضل والنبل وهو خلق الكرم وسمة أهل المروءة و الشرف. وعن ابن مسعود # أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " استحوا من الله حق الحياء " قال قلنا يا رسول الله إنا لنستحي والحمد لله قال: " ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى وتذكر الموت والبلى ومن أراد ترك زينة الحياة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ".
فكم هو نبينا معلم ماهر، وأبُ حانٍ، فالحياء يجري في عروقه كمجرى الدم، ويفيض على أصحابه فيزيل الجهل، فقد خاب وخسر من منه لم يفهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ