[color=darkblue][size=18]
الفصل الرابع عشر
خاب ظني كثيرا من نتيجة هجوم بوارو بالقنبلة على البيت في الحي الصيني , فقد هرب رأس العصابة !
عندما هرع رجال جاب لما صفر بوارو وجدوا أربعة رجال صينيين في القاعة فقدوا وعيهم , لكن الذي هددني بالموت لم يكن فيهم , فتذكرت حينئذ أنني حين أجبرت على الخروج إلى عتبة البيت بقي هذا الرجل في المؤخرة , و بذلك ظل خارج منطقة الخطر الذي أحدثته القنبلة ففر من مخرج من المخارج الكثيرة التي عرفناها فيما بعد
لم نعلم من الأربعة الذين وقعوا في قبضتنا شيئا , و التحقيق الواسع الذي أجرته الشرطة لم يكشف صلة لأحدهم بالأربعة الكبار
لقد كانوا فقراء من الحي , و قد ادعوا جهلا تاما باسم لي شانغ ين , إنما استأجرهم رجل صيني للخدمة في البيت , و لم يكونوا يعلمون شيئا من شؤونه الخاصة !
في اليوم التالي تعافيت تماما من أثر القنبلة إلا من صداع خفيف , فنزلنا إلى الحي الصيني و تفحصنا البيت الذي استُنقذت ُ منه . .
كان المبنى يتألف من بيتين مصعدين متصلين معا بممر من تحت الأرض , كانا مهجورين لا فرش فيهما , و قد غطيت الشبابيك المكسورة فيهما بستائر بالية . .
اطلع جاب على الأقبية و كشف المدخل المؤدي إلى القبو الذي لبثت فيه نصف ساعة عسيرة , و أكد التحقيق أنها غرفة جهزت خصيصا من أجلي في الليلة السابقة
الحرير الذي كسا الحيطان و الأريكة و السجاد الممدود على الأرض كان متقنا . قد لا أكون من الخبراء العارفين في الفن الصيني إلا قليلا , و لكني أملك أن أجزم أن كل قطعة في تلك الغرفة كانت بالغة القيمة عظيمة الشأن !
أجرينا تفتيشا دقيقا للبيت , و كنت أرجو أن نجد وثائق هامة , ربما قائمة بأسماء عملاء الأربعة الكبار , أو رسائل في خططهم , لكننا لم نجد شيئا إلا رسائل كان الرجل الصيني يرجع إليها عندما كان يملي علي رسالتي إلى بوارو , كانت تتألف من سجل كبير عن كل عمل عملناه و عن شخصيتنا و مكامن ضعفنا !
كان بوارو مبتهجا من هذا جدا , كأنه طفل , أما أنا فلم أحسب أنها ذات لا سيما أن الرجل الذي جمعها – كائنا من كان – قد أخطأ في بعض آرائه بصورة مضحكة , و قد أوضحت ذلك لصديقي و نحن راجعان إلى بيتنا , قلت :
- بوارو , أنت تعرف الآن ماذا يظننا خصمنا ؟ يبدو أنه بالغ كثيرا في تقدير قوتك العقلية و استخف بي ! لا أدري كيف يمكن أن تنفعنا هذه المعرفة ؟
ضحك بوارو بطريقة مزعجة :
- أنت لم تفهم يا هيستنغز , إننا نستطيع الآن أن نعد أنفسنا لمواجهة أساليبهم في الهجوم حيث أدركنا بعض أخطائنا , مثلا يا صديقي : نعلم أنك يجب أن تفكر قبل أن تعمل , فإذا رأيت مرة أخرى فتاة ذات شعر أحمر في مشكلة فيجب أن تنظر إليها بارتياب , أليس كذلك ؟
كان في رسائلهم إشارات سخيفة عن تهوري المحتمل , و أشاروا أنني كنت سريع التأثر بالفتيات ذوات الشعر الأحمر , و كان فيها إشارة تعني بوارو فقدرت على الرد عليه :
- و ماذا عنك ؟ هل ستعالج (( غرورك المفرط )) و (( أناقتك الشديدة )) ؟
لم يكن بوارو مسرورا من ردي السريع
- بلا ريب يا هيستنغز انهم يخدعون أنفسهم في بعض الأمور , و سيعلمون ذلك في الوقت المناسب , و في غضون ذلك علمنا بعض الأشياء و عرفنا أنه يلزمنا الاستعداد
كانت الكلمة الأخيرة هذه البديهية المفضلة لديه منذ عهد قريب , و قد بدأت أكره معناها , و ما زال قائلا :
- هيستنغز , إننا نعرف شيئا ما و هذا فيه خير , لكن ينبغي أن نعرف أكثر
- في أي اتجاه ؟
استرخى بوارو في كرسيه و عدل علبة الكبريت التي ألقيتها على الطاولة بإهمال , و أحسست أنه يستعد لإلقاء خطبة طويلة :
- يجب يا هيستنغز أن نواجه أربعة أعداء , أربعة أشخاص مختلفين , رقم ((1)) عرفناه و لم نعامله , بالمناسبة , لقد بدأت يا هيستنغز أفهمه فهما حسنا : عقل شرقي حاذق , إن كل ما لقيناه كان من تدبير عقل لي شانغ ين
رقم ((2)) و رقم ((3)) لهما نفوذ و مرتبة عليا , و هما لذلك في حصانة من هجومنا , غير أن هذا سلاح ذو حدين: انهما مكشوفان فينبغي أن يقدرا حركاتهما بعناية , و هما – مع ذلك – قادران على النجاح لما لهما من شهرة و منصب . أما رقم ((4)) . . .
تغير صوت بوارو قليلا و تابع :
- أما رقم ((4)) فان نجاحه في تخفيه . . من هو ؟ لا أحد يعرف ! ما هو شكله ؟ لا أحد يعرف ! كم مرة رأيناه ؟ خمسا , أليس كذلك ؟ فهل يستطيع أحدنا أن يجزم بأنه سيعرفه إذا رآه ؟
تذكرت الرجال الخمسة المختلفين : حارس المصحة القوي الجسم , جيمس الرجل الذي كان يلبس المعطف المزرر في باريس , الخادم , الطبيب الشاب الباسم في قضية الياسمين الأصفر , و البروفيسور الروسي . . لم يشبه أي واحد من هؤلاء الخمسة الآخر , فقلت :
- لا , لا دليل عندنا بتاتا !
ابتسم بوارو :
- أرجوك لا تدع لهذا اليأس الشديد سبيلا إليك , إننا علمنا شيئا أو شيئين . . علمنا أنه رجل متوسط الطول أشقر الشعر قليلا , لو كان رجلا طويلا أسمر ما استطاع أن يخدعنا في هيئة الطبيب الأشقر القصير , و لابد أن يكون أنفه صغيرا مستقيما , لأن الأنف الكبير لا يصير صغيرا , ثم لا بد أن يكون رجلا شابا ليس أكبر من الخامسة و الثلاثين , إذن فقد وصلنا إلى شيئا ما : رجل بين الثلاثين و الخامسة و الثلاثين , متوسط الطول , لونه طبيعي , خبير في ( الماكياج ) , ليس لديه أسنان طبيعية
- ماذا ؟
- أجل يا هيستنغز , الحارس كانت أسنانه مكسورة صفراء , و في باريس كانت أسنانه بيضاء مستوية , و حين كان طبيبا كانت أسنانه بارزة قليلا , و لما كان سافرونوف كانت أنيابه طويلة , لا شيء يغير الوجه مثل طقم مختلف من الأسنان , هل ترى أين يقودنا كل هذا ؟
- لا أدري
- يقولون : (( حرفة الرجل مكتوبة في وجهه )) . .
- مجرم ؟
- خبير في فن الماكياج أو أنه كان ممثلا في يوم ما
- ممثل ؟
- أجل , فنان بارع , الممثلون صنفان : صنف يطيعه دوره و صنف يطيع دوره , صنف يؤثر في الدور و صنف يتأثر به و يقلب شخصيته حسب دوره . يجب أن نبحث عن رقم ((4)) بين ذلك الصنف السابق , انه فنان بارع يلبس الدور الذي يمثله بإتقان
- إذن أنت تظن أنك تقدر أن تتبعه في المسرح ؟ وددت لو أن هذه الفكرة جاءتك من قبل , لقد ضيعنا الكثير من الوقت
- كلا يا صديقي , لم نضيع وقتنا , عملائي مشغولون بالبحث منذ بضعة شهور , جوزيف ايرونز واحد منهم , هل تذكره ؟ لقد جمعوا قائمة بالرجال الذين تنطبق عليهم الأوصاف المطلوبة : شباب في الثلاثين : ذوو موهبة في التمثيل , تركوا المسرح في السنين الثلاث الأخيرة بصورة قاطعة
فقلت بتشوق :
- حسنا؟
- كانت القائمة طويلة , منذ زمن و نحن مشغولون بالحذف و أخيرا أخرجنا منها أربعة أسماء . . . هاهي يا صديقي
أعطاني قصاصة من الورق قرأتها جهرة :
إيرنست لوتريل : ابن كاهن في الشمال , غريب الأطوار , طرد من مدرسته , ذهب ليعمل في المسرح و هو في الثالثة و العشرين , مدمن مخدرات , يفترض أنه سافر إلى أستراليا قبل أربع سنين و لم نستطع متابعته منذ أن غادر إنكلترا , عمره الآن اثنان و ثلاثون عاما , طوله 5 أقدام و 10 بوصات , حليق , شعره بني , أنفه مستقيم , البشرة شقراء , العينان رماديتان
جون سانت مور : اسم منحول , الاسم الصريح مجهول , كأنه من أصل لندني , عمل في المسرح منذ أن كان طفلا حيث كان يؤدي أدواره في مسرح المنوعات , انقطعت أخباره منذ ثلاث سنوات , في الثالثة و الثلاثين , طوله 5 أقدام و 10 بوصات , نحيف , عيناه زرقاوان , لونه أشقر
أوستين لي : اسم منحول , اسمه الصريح أوستين فولي من أسرة طيبة , كان يحب شكلا واحدا من التمثيل , و كون لنفسه شخصية متميزة , له سجل حربي متألق , مثل في مسرحيات عدة , كان يتحمس لتثميل قصص الجريمة , أصابه انهيار عصبي شديد من حادث سيارة قبل ثلاث سنوات و نصف و لم يظهر على المسرح بعدها , لا أثر له يدل على مكانه الآن , عمره 35 سنة , طوله 5 أقدام و 9 بوصات و نصف , بشرته شقراء و شعره بني و عيناه زرقاوان
كلود داريل : يفترض أنه اسمه الصريح , أصله مجهول , مثل في مسرح المنوعات و مسرح الذخائر , ليس له أصحاب مقربون , كان في الصين عام 1919 , عاد عن طريق أمريكا , مثل أدوارا قليلة في نيويورك , في إحدى الليالي لم يظهر على خشبة المسرح و لم يسمع عنه شيء بعدها , تقول شرطة نيويورك بأن اختفاءه غامض جدا , عمره 33 سنة , شعره بني , بشرته شقراء , عيناه رماديتان , طوله 5 أقدام و 10 بوصات و نصف
قلت و أنا أضع الورقة :
- هذا مثير مدهش ! اذن فهذه نتيجة التحقيق الذي دام شهورا ؟ و هذه الأسماء الأربعة , أي منها تشك فيه ؟
أشار بوارو بيده بإيماءة نصيحة :
- يا صديقي . . إن هذا سؤال مبكر في الوقت الراهن . لا بد أنك لاحظت أن كلود داريل كان في أمريكا و الصين , و هي حقيقة ذات دلالة , ربما , و لكن لا يجدر أن نسمح لأنفسنا بالتحيز لهذه النقطة تحيزا مفرطا , ربما كان ذلك مجرد صدفة
- و ما هي الخطوات التالية ؟
- الأمور تسير بنظام , ستظهر كل يوم إعلانات مكتوبة بحذر , أصدقاء و أقرباء أحد هؤلاء الأربعة سيتصل بمحامي في مكتبه , حتى اليوم يمكن أن يكون . . . أوه . . انه التلفون يرن , ربما يكون الرقم خطأ كالعادة و سوف يعتذرون عن الإزعاج , و ربما يكون شيء قد ظهر
عبرت الغرفة و رفعت السماعة :
- نعم , نعم , هنا بيت السيد بوارو , أنا كابتن هيستنغز , ها ! السيد ماكنيل ؟ نعم , الآن أخبره و نأتي حالا
رددت السماعة و رجعت إلى بوارو :
- بوارو , محاميك السيد ماكنيل اتصل : امرأة صديقة لكلود داريل ! الآنسة فلوسي مونرو ! ماكنيل يريد أن تذهب إليه
صاح بوارو :
- فورا
و اختفى في غرفة نومه ليعود و على رأسه القبعة . و في الحال ركبنا سيارة حملتنا إلى وجهتنا , و دخلنا مكتب السيد ماكنيل الخاص
على المقعد المواجه للمحامي كانت امرأة دميمة تجاوزت سن الشباب , شعرها أصفر مقزز فيه خصلات مجعدة فوق كل أذن , جفناها مصبوغان بالسواد , لكنها لم تنس على كل حال وضع الحمرة و أحمر الشفاه
ماكنيل :
- هاهو السيد بوارو , سيد بوارو , هاهي الآنسة مونرو التي تلطفت كثيرا بنا و استجابت لنا
- ها . . ذلك لطف كبير !
ثم تقدم بوارو و قال بحماس غير آبه بمشاعر السيد ماكنيل :
- إن الآنسة تزهر كالوردة في هذا المكتب الممل العتيق !
احمر وجه الآنسة مونرو خجلا و ابتسمت ابتسامة متكلفة و هي تعلق قائلة :
- لا تمزح يا سيد بوارو , إني أعرفكم أيها الفرنسيون
- يا آنسة , نحن لسنا كالإنكليز بلهاء أمام الجمال , و أنا لست فرنسيا , أنا بلجيكي
- لقد ذهبت إلى أوستند بنفسي
- إذن فأخبرينا عن السيد كلود داريل
- عرفت السيد كلود داريل يوما ما , و قد رأيت إعلانك , و حيث إنني لا أعمل الآن في المحل , قلت لنفسي : انهم يريدون أن يعرفوا عن المسكين العجوز كلودي , فلعل وراءه ثروة لم يعرفوا وارثها , يجب أن أذهب في الحال
نهض السيد ماكنيل :
- حسنا يا سيد بوارو هل أترككم وحدكم ؟
- أنت لطيف جدا , لكن ساعة الغذاء تقترب و قد خطرت ببالي فكرة صغيرة , ربما تريد الآنسة أن تأتي معي لتناول الغذاء
تلألأت عيناها , و خطرت ببالي أنها كانت في ضائقة مالية و أن وجبة مشبعة لا ترفض
و خرجنا جميعنا في سيارة أجرة نحو أحد مطاعم لندن الفاخرة , و عندما وصلنا طلب بوارو غذاء لذيذا
بدأت تأكل وجبتها بشهية فيما طرق بوارو بحذر موضوعه المهم :
- مسكين السيد داريل , انني آسف لأنه ليس معنا الآن
تنهدت الآنسة مونرو :
- صدقت , الحق أنه ولد مسكين ! ترى ماذا جرى له ؟
- قد مضى وقت طويل على رؤيتك له , أليس كذلك ؟
- آه ! منذ سنين ! لم أره منذ الحرب . . كلودي كان ولدا مرحا لم يتحدث عن نفسه أبدا , لكن كل شيء سيبين اذا كان هو وريثا مفقودا . . و هل هو إرث شرعي يا سيد بوارو ؟
- للأسف مجرد تركة , و المسألة هي في تحديد الهوية , لذلك يلزمنا البحث عن شخص كان يعرفه جيدا , أنت كنت تعرفينه جيدا , أليس كذلك يا آنسة ؟
- لا بأس يا سيد بوارو , فأنت رجل لطيف تحسن اختيار طعام السيدات بأفضل من صغار هذه الأيام السفهاء , و أظن كونك فرنسيا غير مخيف . . آه ! أنتم – أشارت بأصبعها نحوه – أيها الفرنسيون أشرار , أشرار
عارضها بوارو متلطفا :
- لا , لا يا آنسة , لا تقولي ذلك . الآن هلا وصفت لي السيد داريل هذا ؟
- ليس بالطويل و لا بالقصير , أنيق , عيناه رماديتان فيهما زرقة , شعره أشقر , فنان و أي فنان ! لم أر مثله في الناس , و لو لا الغيرة لأصبح رجلا مشهورا , آه يا سيد بوارو , كم نعاني نحن الفنانين من الغيرة و الحسد , أذكر مرة في مانشستر . .
- هذا كلام جميل يا آنسة في أمر السيد داريل , النساء لا ينسين شيئا و يلاحظن ما يفوت الرجال , لقد عرفت امرأة عرفت رجلا من بين اثني عشر رجلا , هل تدرين كيف ؟ لقد لاحظت سمة مميزة تظهر على أنفه إذا غضب ! هل في الرجال من يلاحظ شيئا كهذا ؟
صرخت مونرو :
- ألا نستيطع ذلك ؟ نعم , نحن نلاحظه . . أتذكر كلودي , الآن بدأت أفكر بذلك : كان كثير العبث بالخبز الذي على الطاولة , كان يضع قطعة صغيرة بين أصابعه و يفركها ليأكل لب الرغيف , قلد رأيته يفعل ذلك مئة مرة , و أستطيع أن أعرفه من هذه العادة التي فيه
- و هل تحدثت معه عن عادته هذه يا آنسة ؟
- لا؛ فأنت تعرف طبع الرجال : لا يحبون أن تنتقدهم لا سيما ان بدا لهم أنك تنهاهم عن فعلها , لم أقل كلمة واحدة البتة , لكني كنت أضحك في سري كثيرا , انه لم يكن يشعر بفعله
هز بوارو رأسه موافقا , و رأيت يده ترتعش قليلا حين مدها إلى صحنه , قال :
- و خط اليد وسيلة لتحديد الهوية , لا شك أن عندك رسالة كتبها السيد داريل . .
هزت رأسها أسفا :
- لم يكتب لي سطرا في حياته أبدا
- هذا مؤسف
قالت مونرو فجأة :
- لكن عندي صورة . .
- عندك صورة ؟
قفز بوارو من كرسيه مذهولا :
- صورة قديمة , حين كان عمره ثمانية أعوام . .
- لا ضير ان كانت عتيقة أو باهتة , هلا أعطيتني إياها يا آنسة ؟
- أجل
- ربما تأذنين أن أستنسخ منها , إن ذلك لا يأخذ وقتا
- أجل إذا كنت تحب ذلك
نهضت مونرو , قالت بمكر :
- يجب أن أنصرف , أسعدني لقاؤك أنت و صاحبك يا سيد بوارو . .
- و الصورة ؟
- سأبحث عنها هذه الليلة , أظن أنني أعلم مكانها , سوف أرسلها لك فورا
- ألف شكر يا آنسة , أنت لطيفة جدا , أرجو أن نأكل الغذاء معا في وقت قريب !
- أنا على استعداد متى شئت . .
- لكني أجهل عنوانك
و بكبرياء شامخة سحبت مونرو بطاقة من حقيبتها و أعطتها له , كانت بطاقة وسخة بعض الشيء , و كان العنوان المطبوع مشطوبا كتب فوقه عنوان آخر بقلم رصاص . ثم مع انحناء ودعنا المرأة و ذهبنا , و سألت أنا بوارو :
- هل تظن حقا أن هذه الصورة خطيرة ؟
- نعم يا صديقي . . (( الكاميرا لا تكذب )) , نستطيع أن نكبر الصورة و نضبط النقاط البارزة , و نعلم كثيرا من التفاصيل : الأذن التي لا يستطيع أن يصفها لك أحد , حقا , ماأعظم هذه الفرصة التي جاءت لنا , من أجل هذا اتخذت احتياطاتي
عبر نحو الهاتف و طلب رقم وكالة التحري الخاصة , أوامره كانت واضحة و حاسمة : اثنان من الرجال يذهبان الى عنوان ذكره و يراقبان مونرو , يتابعانها حيث تروح و تجيء , و يؤمنان لها الحماية اللازمة
رد بوارو السماعة و عاد إلي
- و هل هذا لازم يا بوارو ؟
- ربما , لا ريب أنني أنا و أنت مراقبان , و سوف يعرفون من كان يأكل معنا غذاء اليوم , ربما أحس رقم ((4)) بالخطر
مضت عشرون دقيقة , رن الهاتف , و عندما أجبت عليه سمعت على الطرف الآخر صوتا جافا :
- أهذا هو السيد بوارو ؟ هنا مستشفى سانت جيمس , قبل عشر دقائق أحضرت لنا امرأة شابة , الآنسة فلوسي مونرو . . حادث سيارة . . إنها تسأل عن السيد بوارو بإلحاح , يجب أن يأتي حالا , فربما لا تعيش طويلا
أخبرت بوارو , أصبح وجهه شاحبا :
- هيا يا هيستنغز , هيا ننطلق كالبرق
و في غضون عشر دقائق وصلنا إلى المستشفى , سألنا عن مونرو , صعدنا إلى جناح الحوادث لكن الممرضة قابلتنا عند الباب . . قرأ بوارو الخبر في وجهها !
- ماتت ؟
- قبل ست دقائق
وقف بوارو مصعوقا و بدأت الممرضة تكلمه بلطف و هي لا تدري حقيقة حزنه :
- إنها لم تعان ألما , ظلت فاقدة للوعي , دهمتها سيارة , و لم يتوقف السائق . . آمل أن أحدا سجل رقم سيارته
قال بوارو همسا : الأحداث تتسارع ضدنا !
- تود أن تراها ؟
تقدمتنا الممرضة و تبعناها . . المسكينة فلوسي مونرو : ممددة و الحمرة على شفتيها و شعرها المصبوغ ! إنها ترقد بسلام و على وجهها بسمة ! . . همس بوارو :
- أجل . . الأحداث تجري ضدنا
و فجأة رفع رأسه كأن فكرة ما خطرت له و قال : لقد اقتربت نهاية هؤلاء الأشرار ! أقسم لك و أنا أقف هنا جنب جثة هذه المسكينة أني لن أرحمهم عندما يحين الوقت !
- ماذا تقصد ؟
لم يجب بوارو بشيء , بل التفت إلى الممرضة و هو يطلب بلهفة بعض المعلومات , و أخذ أخيرا أخيرا قائمة بالأغراض التي وجدت في حقيبتها . صاح بوارو صيحة مكبوتة و هو يقرأها . .
- هل ترى يا هيستنغز ؟ هل ترى ؟ لا ذكر لمفتاح المزلاج , و لا شك أن معها مفتاحا
لا , لقد صرعت بدم بارد و أول رجل انحنى فوقها أخذ المفتاح من حقيبتها , لكن الوقت ما زال معنا , فقد لا يجد ما يريده في الحال
و حملتنا سيارة أخرى إلى عنوانها : بيوت قذرة متجاورة في حي قديم !
مضى وقت طويل حتى أذن لنا أن ندخل بيتها , لكننا كنا قانعين أن أحدا لا يستطيع أن يغادر و نحن نرقب البيت من الخارج
أخيرا دخلنا , و كان واضحا أن شخصا قد دخل قبلنا هنا ؛ لأن محتوى الأدراج و الخزائن كله مبعثر منثور , و الأقفال مكسورة و الطاولات مقلوبة , كانت عجلة الباحث قبلنا عنيفة جدا
بدأ بوارو البحث في الحطام . . فجأة , وقف منتصبا يصرخ و يمسك إطارا عتيقا لصورة فوتوغرافية . . أما الصورة نفسها فقد اختفت ! قلبه ببطء . . كان على ظهر الإطار لاصق مدور صغير , ملصق يبين السعر , قلت له :
- ثمنه أربع شلنات
- أبصر جيدا يا عزيزي هيستنغز , انه لاصق جديد , ألصقه الرجل الذي نزع الصورة و الذي سبقنا هنا , كان يعلم أننا سنحضر , لذلك ترك هذه لنا . . انه رقم ((4)) . . كلود داريل بالتأكيد !
الفصل الخامس عشر
بدأت أدرك أن بوارو قد تغير بعد الوفاة المأساوية لمونرو . حتى ذلك الحين كانت ثقته بنفسه التي لا تهتز قد قاومت التجربة , لكن الإجهاد الطويل أخذ منه مأخذا فكان يبدو مهموما كئيبا كأنما أعصابه توشك أن تنهار
في هذه الأيام كان هائجا كأنه قط يتجنب كل نقاش في الأربعة الكبار , لكني كنت أعلم أنه كان نشيطا في المسألة سرا
كان يزوره كثيرا رجال غرباء , لكنه لم يتعطف علي بأي بيان لهذا النشاط الخفي , و فهمت أنه كان يبني دفاعا جديدا و سلاحا مواجهة بمساعدة هؤلاء الرجال ذوي المظاهر المثيرة للاشمئزاز
و ذات مرة – مصادفة – رأيت ما هو مدون في دفتر حساباته المصرفي , و كان قد طلب مني أن أتحقق من أمر ما , فعرفت أنه قد دفع مبلغا كبيرا من المال , كبيرا جدا حتى على بوارو الذي يكسب المال عادة بسرعة , دفعه لرجل روسي ما أطول اسمه !
و مازال يكتم الأمر , كان يكرر دوما قوله : (( إياك ألا تقدر عدوك يا صديقي , تذكر ذلك دائما )) ففهمت أن ذلك كان الشرك الذي يجتهد أن يتجنبه بأي ثمن
و هكذا سارت الأمور حتى نهاية آذار , و في أحد الأيام قال بوارو كلاما أرعبني :
- هذا الصباح يا صديقي عليك أن تلبس أفضل ثيابك , سنزور وزير الداخلية
- حقا ؟ هذا مدهش ! و هل هو الذي استدعاك ؟
- كلا , بل أنا طلبت مقابلته , لعلك تذكر أنني قد أديت له خدمة و هو متحمس بسببها و سوف ينفعني حماسه , و كما تعرف , رئيس وزراء فرنسا السيد ديسحارديو يزور لندن الآن , و سوف يحضر اجتماعنا الصغير هذا الصباح
اللورد سيدني مراوثر وزير الداخلية رجل معروف مشهور , في الخمسين من عمره , ذو أسلوب مرح و عيون رمادية لاذعة , استقبلنا بتلك الطريقة المرحة الأنيسة , و كان في البيت رجل طويل نحيف يقف و ظهره إلى الموقد , ذو لحية سوداء ووجه رقيق
قال كراو ثر :
- سيد ديساجرديو , هدا هو السيد هيركيول بوارو , لعلك سمعت به
انحنى الرجل الفرنسي و مد يده يصافحه , و قال بفكاهة :
- أجل قد سمعت بالسيد بوارو , و من ذا لا يعرفه ؟
احمر وجه بوارو من البهجة , قال :
- هدا لطف منك سيدي !
ثم تقدم رجل من زاوية بجانب خزانة كتب طويلة . . كان ذاك هو السيد إنغليز صديقنا القديم , و صافحه بوارو بشدة . قال كراوثر :
- و الآن , سيد بوارو , نحن في خدمتك , لقد فهمت أن لديك معلومات في غاية الأهمية تريد إطلاعنا عليها
- أجل يا سيدي . . . في هذا العالم اليوم منظمة واسعة في الجريمة رؤوسها أربعة أفراد اسمهم الأربعة الكبار , رقم ((1)) رجل صيني اسمه لي شانغ ين , رقم ((2)) المليونير الأمريكي آبي ريلاند , رقم ((3)) امرأة فرنسية , أما رقم ((4)) فلدي من الأسباب ما يدعوني الى الاعتقاد بأنه الممثل الإنكليزي الغامض كلود داريل
و هؤلاء الأربعة قد اتحدوا لكي ينشروا الفوضى و يقوضوا النظام الاجتماعي القائم في العالم و يستبدلوا به نظاما استبداديا تكون لهم من خلاله السيطرة
همس الفرنسي :
- مستحيل أن يتورط ريلاند في شيء كهذا ! الفكرة خيال بالتأكيد
استمع إلي يا سيدي أسرد عليك بعض أفعالهم
كان الوصف الذي قدمه بوارو ساحرا , و لقد كنت أعرف كلامه تفصيلا لكنه أثارني من جديد و أنا أسمع وصف مغامرتنا الخطرة !
نظر السيد ديسجاردريو في صاحبه كراوثر بعد أن أنهى بوارو حديثه , و أجاب كرواثر على النظرة :
- نعم يا سيد ديسجاردريو يجب علينا أن نقر بوجود الأربعة الكبار , لقد سخرت سكوتلانديارد من لك في البداية , و زعمت الشرطة أن السيد بوارو يبالغ كثيرا , غير أني شخصيا أشعر أن كلامه صحيح , و قد أجبرت الشرطة و سكوتلانديارد على التسليم بأكثر من هده الفرضيات
بين بوارو لهما عشر نقاط بارزة طلب مني أن لا أعلنها , و تضمنت الكوارث التي أصابت الغواصات و سلسلة حوادث الطائرة و هبوطها الإجباري , و حسب كلام بوارو كانت جميعا من فعل الأربعة الكبار , و شهد بان عندهم أسرار علمية لا يعرفها العالم كله , و هذا جعل رئيس وزراء فرنسا يسأل بوارو سؤالا كنت أنتظره :
- قلت بأن العضو الثالث من هذه المنظمة امرأة فرنسية , هل تعرف اسمها ؟
- انه اسم مشهور جدا يا سيدي , اسم ذائع الصيت , رقم ((3)) ليس إلا مدام أوليفير !
و لما ذكر اسم العالمة الكبيرة خليفة المدام كوري قفز السيد ديسجاردريو من كرسيه , احمر وجهه و قال :
- مدام أوليفير ؟ مستحيل ! هذا سخف ! ان الذي تقوله إهانة . .
هز بوارو رأسه بلطف لكنه لم يجبه . نظر ديسجاردريو إليه مذهولا لبضع دقائق , ثم التفت إلى وزير الداخلية و ضرب على جبينه بصورة ذات دلالة , قال :
- السيد بوارو رجل عظيم , لكن حتى العظماء يصيبهم الهوس أحيانا , هذا معروف , أليس كذلك يا سيد كراوثر ؟
صمت وزير الداخلية قليلا ثم أجابه بلسان ثقيل :
- لا أدري , كنت دائما و ما زلت أثق بالسيد بوارو , لكن هذا جدير بالملاحظة !
- ديسجاردريو : لي شانغ ين أيضا , من ذا سمع به من قبل ؟
و جاء الصوت من السيد إنغليز على غير توقع :
- أنا سمعت . .
حدق إليه الرجل الفرنس ثم نظر بهدوء كأنه وثن صيني , أوضح وزير الداخلية :
- السيد إنغليز هو أعظم مرجع لدينا في شؤون الصين
- إنغليز : لقد ظننت أنني الرجل الوحيد في إنكلترا الذي يعرف عنه , إلى أن جاءني السيد بوارو . لا تخطئ يا سيد ديسجاردريو , في الصين رجل واحد ذو أثر اليوم : لي شانغ ين , و قد يكون أذكى دماغ في العالم اليوم على الإطلاق
جلس السيد ديسجاردريو كالمصعوق , لكنه ملك قواه و قال :
- ربما يصح شيء مما تقول يا سيد بوارو , و لكنك مخطئ بالتأكيد فيما يتعلق بمدام أوليفير . . إنها ابنة فرنسا المخلصة للعلم !
هز بوارو كتفيه استهجانا و لم يجب
ران الصمت بعض الوقت , ثم نهض صديقي و عليه ملامح الوقار :
- هذا كل ما أردت قوله يا سادة , إني أحذركم , دار في خلدي أنكم ربما لا تصدقونني , لكنكم قد تصبحون أكثر حذرا , إن كلماتي ستدخل في الأعماق و كل جديد سيؤكد لكم الحقيقة , كان ضروريا أن أتحدث الآن إليكم , فلعلي لا أستطيع لقاءكم بعد هذا اليوم !
- تقصد . . ؟
- أقصد أنني أصبحت في خطر دائم مند فضحت اسم رقم ((4)) , سوف يسعى لتدميري بأي ثمن , و ليس اسمه ((المدمر)) من فراغ أو ضعف يا سادة . أسلم عليكم , و إليك يا سيد كراوثر هذا المفتاح و هذا الظرف , كتبت كل ملاحظاتي عن القضية و أفكاري حول أحسن السبل لمواجهة الخطر الذي قد يعم العالم يوما ما و وضعتها في خزانة , فإن قتلت يا سيد كراوثر فأنت صاحب الحق للتصرف بتلك الأوراق , يوما طيبا !
خرجنا و خرج إنغليز معنا , و قال بوارو و نحن نسير :
- ما خاب ظني في المقابلة لم أتوقع إقناع ديسجاردريو , لكنني ضمنت أنني اذا مت فإن معرفتي لا تموت , لقد أقنعت واحدا من اثنين . . . لا بأس !
- إنغليز : إنني معك كما تعرف , و وسوف أسافر إلى الصين إن نجوت بنفسي
- هل هدا عمل حكيم ؟
- لا , لكنه واجب , و علي أن أعمل ما أستطيع
- آه إنك رجل شجاع , و لو لم نكن في الشارع لعانقتك
ظننت أن إنغليز بدا مطمئنا . . و هدر قائلا :
- قد لا أكون في خطر و أنا في الصين أكثر من الخطر الذي تواجهه أنت في لندن
- ربما , أرجو أن لا يذبحوا هيستنغز أيضا . . إن هذا يزعجني كثيرا !
قاطعت حديثهما اللطيف لأقول بأنني لا أعتزم ترك نفسي تدبح , و بعد ذلك بقليل تركنا إنغليز , سرنا بصمت بعض الوقت لكن بوارو قطعه و قال عبارة مفاجأة تماما , قال :
- أظن أن علي أن أقحم أخي في هذه القضية
- أخوك ؟ لم أعرف أن لك أخا من قبل
- يا هيستنغز , ألا تعلم أن رجال التحري جميعا لهم إخوة ؟
بوارو له طريقة عجيبة أحيانا تجعل المرء في حيرة مايدري أجاد هو أم هازل ! سألته و أنا أحاول أن أوافقه :
- و ما اسم أخيك ؟
- أشيلي , يعيش قرب منتجع صحي في بلجيكا
- و ماذا يعمل ؟
- لا شيء ؛ لأنه مريض , لكن قدرته على الاستنتاج ليست دون قدرتي
- و هل يشبهك ؟
- أجل لكنه ليس أنيقا و يحلق شاربه
- أكبر منك ؟
- لقد صادف أنه ولد في نفس اليوم الذي ولدت فيه !
صحت مندهشا : توأمان !
- تماما يا هيستنغز , إنك تقفز إلى النتيجة الصحيحة بدقة ! ها نحن قد عدنا إلى البيت ثانية , دعنا نشتغل في الحال بتلك القضية السهلة , قضية عقد الدوقة
لكن قدر لقضية عقد الدوقة أن تتأجل بعض الوقت , فقد كان عندنا قضية من نوع آخر , فما إن دخلنا إلى البيت حتى جاءت السيدة بيرسون و أخبرتنا أن ممرضة اتصلت و أنها تريد رؤية بوارو
دخلنا فوجدناها تجلس على مقعد كبير تقابل الشباك . . امرأة جميلة في ربيع العمر , عليها زي كحلي , كرهت الحديث في المسألة قليلا لكن بوارو طمأنها فأخذت تحكي قصتها :
- أرسلني مستشفى لارك سيتر هود لكي أمرض عجوزا في هيرتفوردشير اسمه السيد تيمبلتون , و كان بيته يثير البهجة و أهله فرحون , الزوجة : مدام تيمبلتون أصغر كثيرا من زوجها , و له ابن من زواجه الأول يعيش هناك , و لكنه لم يكن على وفاق تام مع زوجة أبيه , و هو لم يكن مختلا تماما و لكنه من النوع البطيء التفكير
حسنا . . لقد كان العجوز مريضا , و بدا لي مرضه مند البداية غامضا , و في ذلك الوقت بدا سليما معافى , ثم – فجأة – أصابته نوبة معوية مع ألم و تقيؤ , لكن طبيبه بدا راضيا عن حالته و لم أستطع أن أقول شيئا , بيد أني لم أملك نفسي من التفكير في حالته ثم . .
سكتت و احمر وجهها , و قال بوارو :
- حدث شيء أثار شكوكك ؟
- نعم
ثم سكتت و قد بدا أن الاستمرار صار صعبا عليها . .
- عرفت أن الخدم ينقلون كلاما أيضا . .
- عن مرض السيد تيمبلتون ؟
- آه ! كلا , بل عن هدا الشيء الآخر !
- السيدة تيمبلتون ؟
- نعم
- ربما مع السيدة تيمبلتون مع الطبيب ؟
كان بوارو ذا حاسة خارقة في هده الأمور . . . ألقت الممرضة عليه نظرت شكر و أكملت :
- كانوا ينقلون كلاما , ثم ذات يوم رأيتهما بعيني في الحديقة . .
توقفت المسألة هكذا ,لقد كانت زبونتنا في كرب شديد لأنها انتهكت الحشمة , فلم نسألها مادا رأت حياء , لكنها حتما قد رأت ما فيه برهان
- النوبة ساءت و ساءت , الدكتور تريفز زعم أن كل مايصيب العجوز طبيعي متوقع و أنه ربما لا يعيش طويلا , لكنني لم أر شيئا من هدا أبدا من قبل طوال خبيرتي في التمريض , بل بدا لي أنه شكلا من . .
أطرقت مرة أخرى و هي مترددة , فتدخل بوارو مساعدا :
- التسمم الزرنيخي . .
هوت رأسها موافقة
- و المريض قال بعد ذلك شيئا عجبا , قال (( سيقتلونني أربعتهم ! سيقتلونني ! ))
- ماذا ؟!
- كانت هذه هي كلمته يا سيد بوارو , كان يكابد ألما عظيما آنذاك و لا يعي – على الأغلب – ما يقول
- مذدا تظنين معنى قوله (( أربعتهم )) ؟
- لست أدري , لعله كان يقصد زوجته و ابنه و الطبيب و الآنسة كلارك صاحبة زوجته , ربما كان يتوهم أنهم جميعا متحدون عليه
- نعم , ربما . . و ماذا عن الطعام ؟ ألم تأخذي حذرك في شأنه ؟
- إنني دائما أفعل ما أستطيع لكن السيدة تيبلتون تلح أحيانا كي تطبخه هي بيدها , ثم أحيانا أكون في عطلة
- تماما , و أنت لست على يقين من الأمر كي تبلغي الشرطة
أظهر وجه الممرضة خوفها عند هدا السؤال . .
- أصابت السيد تيمبلتون نوبة بعد شربه صحنا من المرق , فأخذت حثالة المرق و أحضرتها معي , لقد ألغيت اليوم زيارة إلى أمي المريضة من أجله . .
أخرجت قنينة ملئت سائلا قاتما و أعطتها بوارو :
- أحسنت يا آنسة , سوف نحللها الآن , إذا رجعت بعد ساعة فنكون قد حسمنا شكوكك
و كتب بوارو اسمها و بعض المعلومات عن مؤهلاتها ثم سطر رسالة و بعثها مع قنينة المرقة , و بينما كنا ننتظر النتيجة كان بوارو يسلي نفسه بالتحقيق في أوراق الممرضة مما أدهشني , فقال :
- أنا أعمل جيدا يا صديقي كي أكون حذرا , لا تنس أن الأربعة الكبار يتعقبوننا
عرف بوارو أن اسمها مابل بالمر , كانت تعمل في مهد لارك , ترى لماذا أرسلت إلى تيمبلتون ؟ قال و عينيه تلمع :
- حسنا و الآن هاهي بالمر قد رجعت و هاهو بيان التحليل . .
- هل فيه زرنيخ يا سيد بوارو ؟
- لا !
دهشت أنا و الممرضة كثيرا , و أكمل بوارو :
- ليس فيه زرنيخ لكن فيه أنتيمون , سنذهب حالا إلى هيرتفوردشير , أدعو الله ألا نكون متأخرين
لقد قرر بوارو أن يقدم نفسه كرجل تحر , لكن حجته الظاهرة أنه أتى يسأل مدام تيمبلتون عن خادمة كانت تعمل عندها , و يزعم أن لها علاقة بسرقة الجواهر
وصلنا بيتهم المسمى (( إلمستيد ))في ساعة متأخرة , بعدما سمحنا للممرضة أن تسبقنا بعشرين دقيقة حتى لا تثار شكوك حول وصولنا سوية
السيدة تيمبلتون امرأة طويلة عبوس يبدو في عينيها القلق
استقبلتنا و لاحظت مسحة من الخوف سرت على وجهها عندما أعلن بوارو عن هويته . لكنها أجابت سؤاله في شأن الخادمة بجلد , ثم بدأ بوارو حديثه في تاريخ طويل لقضية تسميم وصفتها امرأة مذنبة , عيناه لم تغادر وجهها وهو يتحدث و قد حاولت هي كبت هيجانها الدي كان يزيد , ثم فجأة , أسرعت من الغرفة بعذر ضعيف . .
لم نترك وحدنا طويلا , فقد دخل علينا رجل قوي الجسم شاربه أحمر خفيف و على أنفه نظارة , قدم نفسه قائلا :
- دكتور تريفيز . طلبت مني مدام تيمبلتون أن أعتذر لكما فهي في حالة سيئة , إنها متوترة بسبب قلقها على زوجها و قد نصحت لها أن تذهب للنوم حالا , لكنها ترجوكما أن تبقيا ! لقد سمعت بك يا سيد بوارو و نريد أن ننتفع بحضورك . . ها هو ميكي . .
و دخل علينا فتى بطيئ الحركة , يدل وجهه المدور و حاجباه المرتفعان على حماقة و دهشة دائمة , ابتسم بصورة عجيبة وهو يصافحنا . يبدو أنه كان ذلك الابن (( بطيء التفكير )) !
و قمنا جميعا لوجبة العشاء , و عندما انصرف الدكتور ليأتي ببعض الطعام , صارت ملامح وجه الفتى متغيرة بصورة مخيفة : مال للأمام وهو يحدق ببوارو , و قال وهو يهز رأسه :
- أنت جئت من أجل أبي , أعرف . . أعرف أشياء كثيرة , لكن لا أحد يظنني أعرف , أمي ستفرح حين يموت أبي , وتستطيع أن تتزوج الدكتور تريفيز , إنها ليست أمي . . إني لا أحبها
كان كل شيء مرعبا , و من حسن الحظ أن عاد الدكتور تريفيز قبل أن يلفظ بوارو كلمة معه , و كان علينا أن ننشغل بحديث آخر
و فجأة أسند بوارو ظهره إلى الكرسي و جعل يتأوه ووجهه يتلوى من الألم . . صرخ الدكتور :
- سيدي العزيز , ماذا أصابك ؟
- تشنج مفاجئ . . إنني معتاد عليه . لا , لا أحتاج إلى مساعدة منك يا دكتور , هل يمكن أن أستريح في الطابق الأعلى ؟
قبل طلبه فورا و صحبته إلى الأعلى حيث سقط على سريره و هو يئن بشدة , لقد ذهلت قليلا لكني فهمت بسرعة أن بوارو كان يمثل و أن غايته أن يترك وحده في الطابق الأعلى بجوار غرفة المريض , و لقد كنت مستعدا حين قفز واقفا في اللحظة التي كنا وحدنا :
- أسرع يا هيستنغز , الشباك . . . اللبلاب هناك في الخارج , نستطيع أن ننزلق عليه إلى الأسفل لنهرب قبل أن يشكوا في غيابنا !
- ننزل إلى أسفل ؟
- أجل , لا بد أن نخرج من هنا حالا , هل رأيته في العشاء ؟
- الطبيب ؟
- لا , تيمبلتون الفتى , عادته العجيبة في الخبز ! ألا تذكر ما قالته مونرو لنا ؟ قالت بأن كلود داريل كان فيه عادة تفتيت الخبز على الطاولة ليأكل لب الرغيف , إنها مؤامرة محكمة يا هيستنغز , و هذا الفتى المعتوه هو عدونا الخبيث . . رقم ((4)) . . . أسرع !
انزلقنا على نبات اللبلاب و نزلنا بسكون و بالكاد أدركنا قطار الساعة 8,34 الأخير الذي أوصلنا إلى البلدة في الساعة الحادية عشرة مساء
قال بوارو متأملا : مؤامرة ! ترى كم واحدا منهم شارك فيها ؟ أشك في أن أسرة تيمبلتون جميعا ليسوا سوا عملاء للأربعة الكبار , هل أرادوا هكذا بسهولة أن نقع في شركهم أم أنها كانت أكثر مكرا ؟ هل كانوا . . ماذا ؟ إنني أتساءل !
ظل يفكر كثيرا . .
و عندما وصلنا إلى مسكننا أبقاني عند باب غرفة الجلوس :
- تنبه يا هيستنغز , عندي شكوك , دعني أدخل أولا . .
دخل , ثم دهب حول الغرفة كأنه قطة غريبة بحذر و هدوء تام , و راقبته قليلا و أنا في مكاني جانب الحائط , قلت و قد نفذ صبري :
- كل شيء على ما يرام يا بوارو
- عسى أنه كذلك لكن دعنا نتأكد
- سأشعل نارا و أدخن بغليوني . . هاهي أعواد الثقاب قد تركتها أنت هذه المرة و لم تعدها إلى مكانها , و هو الأمر الذي كنت تعيبه علي
مددت يدي , فسمعت صرخة بوارو , قفز نحوي , لمست يدي علبة الكبريت . . ثم . . وميض من اللهب الأزرق . . ضربة على الأذن , و ظلام !
وعيت لأجد صديقنا الدكتور ريدغوي يجثو على ركبتيه فوقي تلمح في وجهه الطمأنينة , قال :
- كن هادئا , لقد وقع حادث , أنت بخير
- و بوارو ؟
- أنت في بيتي اطمئن
شعرت خيفة , هروبه من الجواب ألقى في نفسي خوفا رهيبا . .
- بوارو ؟ أين بوارو ؟
أدرك أن علي أن أسمع جوبا فقال :
- لقد نجوت بمعجزة , أما بوارو فلم ينج
انفجرت صرخة من بين شفتي :
- لم يمت ؟ لم يمت ؟
حنى ريدغوي رأسه . . و جلست أنا و قلت بضعف :
- ربما يكون بوارو قد مات . . لكن روحه . . ستعيش ! سأتابع عمله , الموت للأربعة الكبار ! ثم سقطت على ظهري فاقدا الوعي.