عندما تحدث "نسيم طالب" عن العشوائية كظاهرة فيزيائية تعيد تنظيم العالم، كان يعيد صياغة ما طرحه "ستيفن كوفي" حينما تناول دور المبادئ الحاكمة وقوتها كأساس استراتيجي للتخطيط بعيد المدى، حيث قال: "يمكنك التخطيط للنتائج ولا يمكنك التحكم بتوابعها." فكثير من الخطط والقرارات التي نحشد لها أذكى العقول في العالم، كثيرًا ما تأتي بنتائج معاكسة لما نريد.
بدأنا منذ عامين مشروعًا كنا نظنه طموحًا، لإضافة خلاصاتنا إلى "أبل ستور." عهدنا إلى شركة متخصصة بتطوير التطبيق، ثم أدركنا أنه مشروع فاشل بعد شهرين من إطلاقه. اكتشفنا أن "أبل" تتحكم في كل شيء يخصنا، بدءًا من التسعير، ونسبة العائد، وملكية المعلومات، حتى خيل لنا أنه علينا أن نستأذن شركة "أبل" إذا ما أردنا دخول الحمام! ولهذا نتوقع أن تسقط "أبل" في حفرة الأثر العكسي لأفعالها، فتتراجع تدريجيًا، حتى تموت، كما حدث لشركة "نوكيا" التي نامت في تابوت!
نفس الشيء يحدث لشركة "ميكروسوفت" التي احتكرت بيئات العمل على كمبيوترات العالم، وموَّلت "أبل" بملايين الدولارات لإنقاذها من الإفلاس في تسعينيات القرن الماضي، فجمحت الأخيرة وقضمت تفاحة "ميكروسوفت" حتى كرهنا النظر عبر "نوافذها." وها هما "جوجل" و"فيسبوك" شركتان عملاقتان تتوسعان وتشتريان الشركات والتطبيقات، وكأن حركة البندول المتواترة بقوة الدفع لن تتوقف أبدًا، ولكنها ستتوقف في النهاية عند نقطة ما، فنسمع بأن إحداهما قد أكلت الأخرى أو سقطتا معًا.
عينت في العقد الأخير أربعة مديرين لأحد أقسام الشركة، ومن عاداتي الفيزيائية أن أعطي المدير مساحة واسعة، وأحيانًا مفتوحة ليحرك بندول قراراته، ولكني – ويا للأسف – فصلت ثلاثة من الأربعة حتى الآن؛ والسبب؟ بدأ كل منهم في توسيع نفوذه وتجاوز حدوده على حساب من فوقه ومن تحته، مع قرارات تخالف المبدأ الأخلاقي الذي طرحه "كوفي": أنك تستطيع أن تسيطر على الآخرين، لكنك لن تحكم السيطرة، ما لم تسيطر – أولاً – على نفسك.
لقد غزا "جورج بوش" العراق ليسيطر على نفطه وينعش الاقتصاد الأمريكي، فكانت النتيجة أن أفلست أمريكا ودمر العراق. ولقد غزت فرنسا أفريقيا ليستوطن الفرنسيون أرضًا غير أرضهم، ويحكموا شعوبًا غير شعبهم؛ والنتيجة؟ استوطن الأفارقة فرنسا، وبدأ الفرنسيون يأكلون "الكسكس" ولم يعتد الأفارقة أكل "الكرواسون".
وفي تسعينيات القرن الماضي، بدأ الروس برنامجًا كارثيًا للإصلاح الاقتصادي. استقدموا أنظف عقول المخططين من "هارفارد" والبنك الدولي، فخرج جهابذة التخطيط ببرنامج لعلاج المريض الروسي بالصدمات. رأى علماء "هارفارد" أن الصدمات المحسوبة يمكنها أن تحرك الاقتصاد بقوة دفع للتحول نحو الرأسمالية. دمجت الاستراتيجية المتبعة لتحقيق نتائج سريعة بين خفض الإنفاق العام وخصخصة القطاع العام لتحقيق نمو اقتصادي سريع، مما أدى إلى انخفاض الناتج القومي بنسبة 50%، فارتفعت نسبة الفقر من 10% إلى 25%، وساءت الأحوال الاجتماعية، ووقعت الدولة في أيدي المافيا، ثم تنبه الروس إلى أنه من الصعب على عدوك أن يفهمك؛ فقط من يحبك يفهمك، ومن يفهمك يخدمك. ومن هنا بدأت روسيا برنامجها الخاص وطويل المدى للإصلاح، وبدأت تتعلم من جارتها اللدودة: الصين!
وفي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، انتشرت ظاهرة التعري بلبس ما كان يسمى "ميني جيب"، أي "الجيب القصيرة" والتي كانت أقصر مما يحتمله العقل. وتبعتها موضة السراويل الضيقة "البرمودا" التي بدأت تضيق وتستطيل حتى صارت مثل جزيرة "برمودا." فجاء الأثر العكسي باللباس المحتشم والمحترم، فتبعه الحجاب، وتلاه النقاب، حتى وصلنا إلى موضة "داعش" التي عادت بالنساء إلى عصر الإماء، فلم نعد نفرق بين الثورة وبين ستر العورة.
ومن النتائج العكسية للنوايا الاستراتيجية، أن صديقًا مستنيرًا وطموحًا وناجحًا قرر أن يتزوج ثانية رغم أنه يعول ستة أفراد؛ والدين وزوجة وثلاثة أطفال. عندما سألته عن السبب قال: "يا أخي بدي أرتاح. زوجتي الأولى مثل "السنسر" – جهاز الاستشعار – في السيارة، كيفما تحركت، وأينما ذهبت تتصل بي وتصفر لي، تريد أن تعرف أين أنا وماذا أفعل؛ فهي تخشى أن أتزوج. ولذا قررت أن أتزوج ثانية لأريح وأستريح". فضحكت وقلت: "لكنك لن تستريح؛ بدلاً من أن تلبي نداء الأولى وتتزوج الثانية، لا ترد عليها. هناك استراتيجيات أكثر بساطة من علاج الاقتصاد المريض بالصدمات، وإنعاش الاقتصاد بالحروب. أغلق الموبايل فيتوقف القيل والقال."
قال تعالى: "وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ."
المصدر:- موقع إدارة.كوم
المحرر:- أ. نسيم الصمادي